(أجرت الحديث : زهور السايح)

في هذا الحديث الذي خصت به الأستاذة والباحثة والناقدة والروائية زهور كرام، مجلة‭ ،(‬BAB‭)‬‭ ‬التي تصدرها وكالة المغرب العربي للأنباء شهريا، تطرقت الباحثة إلى ما طبع سنة 2020 التي غيرت إيقاع التوقعات وحملت في ركابها أسئلة جديدة ومختلفة، وكيف يمكن للأدب والفن أن يكون الترياق لما حدث من ضرر، وكذا لدور الإبداع الأدبي والفني في تجاوز الأزمة الناجمة عن (كوفيد-19)، وتقييمها لمواكبة الإنتاج الأدبي في أجناسه المختلفة لهذا الوضع الاستثنائي غير المتوقع بتداعياته الثقيلة، خاصة على المستويين العربي والمغربي.

BAB : ما هي السلبيات التي حملتها، برأيكم، سنة 2020، ومثلت خيبات بالنسبة لكم، ما هي قراءتكم لهذا الواقع، وكيف تحددون حجمها ووقعها ومساحة التفاؤل المتاحة لتجاوز وضعية العجز والرعب واللايقين التي استحكمت حلقاتها على كافة الفضاءات ؟

– زهور كرام : سنة 2020 لم تكن عادية كغيرها من السنوات. كانت وما تزال محطة تاريخية أدخلت البشرية في محنة كبيرة. تعودنا الحديث عن أزمات سياسية وطبيعية تؤدي إلى حروب تبدأ وتنتهي، لكن 2020 غيرت إيقاع التوقعات، وحملت معها جائحة “كورونا” التي أدخلت البشرية في أسئلة جديدة ومختلفة، وجعلت كل دولة تواجه المحنة بإمكانياتها ومكتسباتها الثقافية والتعليمية، يُرافق ذلك سؤال التأويل لما حدث وكيف سينعكس على مستقبلها.

ولعل أهم مظهر لهذه المحنة الإنسانية يتمثل في عنصرين اثنين عمق الشعور بحقيقة المحنة وهما: تفاقم الإحساس بالرعب الذي تحول إلى سلطة قاهرة، والعنصر الثاني يتعلق بضبابية ما حدث وما يحدث مما يجعل الإحساس بعدم الثقة في التدبير السياسي العالمي يتفاقم وتنتج عنه مظاهر جديدة في التأويلات.

لكن أكبر مظهر لهذه المحنة أن نهايتها غير محددة في تاريخ معين، ويزداد الأمر ثقلا على البشرية عندما يتلاشى مرجع الثقة بالمعلومة. وهنا نصل إلى أخطر عتبة في هذه المحنة، إذ تواجه البشرية الجائحة بكل مظاهرها القصوى من عدوى تنتشر بكل أبعادها الاحتمالية، إلى شروطه القاسية؛ من تباعد اجتماعي واختناق بسبب استعمال الكمامة، والتنازل عن الحياة الطبيعية والدخول في أجواء غير مألوفة بدون شروط قبلية، وانتظار اللقاحات المتعددة والمتنوعة القادمة بأسئلة دون أجوبة واضحة، معنى هذا أن البشرية في وضعية العتبة، حيث الأزمة وسؤال الانتظار.

نعيش إذن وضعية تاريخية صعبة وعلينا التفكير فيها وهي لم تتلاشى بعد، ولهذا يتحول التفكير نفسه إلى محنة من نوع آخر، إذ كيف تستطيع أن تضمن المسافة مع المحنة وشروطها القاسية واحتمالاتها المفتوحة على العدوى والموت لنتبنى تأويلا معقولا يُؤمن المعنى من الضبابية.

كل هذه الوضعيات غير العادية التي دخلت فيها البشرية تعبر عن تحول تاريخي في نظام العالم وسياساته واقتصاده وأفقه المستقبلي. بل يمكن الحديث عن كوننا نعيش حالة الدخول إلى عصر جديد، بدأت مظاهره تتجلى أمامنا مع الجائحة، ودخول التكنولوجيا خط المواجهة والدفاع عن الإنسان، وكأن التكنولوجيا تُسرع في إدخال البشرية إلى عصر جديد ومختلف تكون فيه هي نفسها سلطة سياسية واقتصادية.

فالتكنولوجيا، التي قدمت خدماتها إلى الإنسان زمن محنة الجائحة، وما تزال تعرض حلولها واقتراحاتها لكي تظل الحياة ممكنة مع شروط الأزمة الصحية القاسية، بدأت تفرض هي نفسها شروطها ومنطقها على الإنسان؛ ولعل أهم مظهر لهذا المنطق أنها عودت الإنسان على خدماتها. فالحياة بعد “كورونا” لن تعود كما كانت قبلها. بدأنا نشهد تحولات بنيوية سياسيا في العلاقات الدولية والتحالفات، واقتصاديا سيصبح للتكنولوجيا ثقلها الجوهري في تحديد الاقتصاد، واجتماعيا سيتغير نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك. كل المفاهيم التي تربينا على دلالاتها لا أقول تنهار اليوم، وإنما تشهد تحولا كبيرا في دلالاتها.

يتطلب هذا الوضع ضرورة تحيين التفكير وتطويره من أجل تفكيك الوضع الجديد للعالم وإنتاج تأويلات جديدة تسمح بضمان التعايش مع العصر الجديد. فالبقاء على التفكير نفسه يعد محنة أخرى ورط الإنسان في اللامعنى. وضعيات جديدة تستوجب تفكيرا مختلفا.

لا شك أنها مسؤولية كبيرة، تتطلب انخراط الفلاسفة والمفكرين والمنظرين والمثقفين والكتاب لتحليل ما يحدث وتقديمه بلغات تستوعبها المجتمعات، وعبر وسائل “السوشل ميديا” حتى يتم ترتيب فوضى التأويلات الحاصلة اليوم.

إن تحرير التفكير من المقاربات القديمة وتحليل الوضعيات بتفكير جديد يُعتبر مفتاح الأمل، بل إن مُرافقة الوضعية التاريخية بفهم مُغاير وإدراك يضع منطق الاحتمال أمرا واقعا يشكل ثقافة الأمل التي تستطيع البشرية أن تواجه بها محنة الوباء واللقاح والرعب و اللايقين.

يُشكل كتابي الصادر مؤخرا عن دار فضاءات بالأردن “الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا” وقفة تفكير في تحولات العالم والإنسان وموقع التكنولوجيا في هذه التحولات والمخاطر القادمة مع سلطة التكنولوجيا.

BAB : ضمن رقعة هذه الخيبات المتسعة بحجم الأذى الذي تسببت فيه الأزمة الصحية العالمية، كيف يمكن للأدب والفن أن يكون الترياق لما حدث من ضرر؟ وهل يملك الإبداع الأدبي والفني بالفعل أن يخلق مرساة آمنة لتجاوز هذه الأزمة ؟

– زهور كرام : الأدب تعبير عن حالة إنسانية، والحالة تنجم عن وضعيات وأسئلة. البشرية تعيش محنة تاريخية معقدة، وتطرح هذه المحنة أسئلة مغايرة عن الأسئلة المألوفة. هناك أسئلة مألوفة في معجم المجتمعات ضاعت مع أسئلة الوضع الجديد، لعل أهم سؤال اليوم هو سؤال المستقبل. إلى أين تتجه البشرية وبأي تأويل ومعنى ومن الذي يتحكم في المستقبل؟ اليوم هناك إحساس بأن الإنسان عبارة عن لعبة تتم برمجتها بذكاء اصطناعي قوي، ويتم تدبير عقله بقرارات تكنولوجية تدعمها خدمات التكنولوجيا.

باختصار هناك تحول في السؤال، وبالتالي فإننا سنشهد انتقالا موازيا في شكل التعبير عن السؤال الجديد، وفي أدب جديد يمتلك أدوات حكي السؤال. لهذا أعتقد بظهور تجليات جديدة للأدب سواء الورقي ولكن بنظام مختلف أو الرقمي الذي بدأ محتشما عربيا بداية القرن الحادي والعشرين وارتفعت نصوصه قليلا بعد الربيع العربي، لكنه سيتطور وتظهر نصوصه المتعددة بعد جائحة كورونا. والأمر طبيعي لأن الحالة الإنسانية تغيرت وأسئلة الإنسان لم تعد نفسها والتكنولوجيا أصبحت أداة تعبير الإنسان.

طبعا، الأدب له منطق خاص لتشخيص الحالة الإنسانية غير المألوفة. وقدرة الأدب على تشخيص الحالة بأسلوب جديد يُعد في حد ذاته تجاوزا للأزمة. الحكي عن الأزمة هو بداية تجاوزها. والأدب له القدرة على مساعدة الإنسان في تأويل ما يحدث معه.

BAB : كيف تقيمون مواكبة الإنتاج الأدبي في أجناسه المختلفة لهذا الوضع الاستثنائي غير المتوقع بتداعياته الثقيلة، خاصة على المستويين العربي والمغربي؟

– زهور كرام : الأدب بمختلف تجلياته يحتاج إلى مسافة عن الحدث. والإنسان يعيش اليوم تحت ضغط الحالة التي تختمر بطرق مختلفة، وعندما تنضج فإنها ستتحول إلى أعمال فنية وأدبية لا يُدرك منتِجها شكلها أو حتى نظامها. وهذا هو الأهم في الأدب والإبداع، بشكل عام هو لا يُرافق الحدث بالتفكير عنه، إنما يتحول هو نفسه إلى مظهر من مظاهر الحدث والحالة. أتوقع ظهور أشكال جديدة في الكتابة ونظامها وفي الأسلوب ولغته وفي موضوعات الأدب.

نحن نعيش انتقالا في سؤال وجود الإنسان، ولا شك أن الإبداع سيعبر عن هذا السؤال ليتحول هو بدوره إلى مظهر من مظاهر العصر الجديد.